كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله في دعائه هذا: {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} أي ضعف. والوهن: الضعف. وإنما ذكر ضعف العظم لأنه عموم البدن وبه قوامهن وهو أصل بنائه فإذا وهن دل على ضعف جميع البدن، لأنه أشد ما فيه وأصلبه، فوهنه يستللزم وهن غيره من البدن.
وقوله: {واشتعل الرأس شَيْبًا} الألف واللام في (الرأس) قاما مقام المضاف إليه. إذ المراد: واشتعل رأسي شيبا. والمراد باشتعال الرأس شيبًا: إنتشار بياض الشيب فيه. قال الزمخشري في كشافه: شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرج الشيب مميزًا، ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم الخاطب أنه رأس زكريا. فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة- انتهى منه. والظاهر عندنا كما بينا مرارًا: أن مثل هذا من التعبير عن انتشار بياض الشيب في الرأس، باشتعال الرأس شيبا أسلوب من أساليب اللغة العربية الفصحى جاء القرآن به، ومنه قول الشاعر:
ضيعت حزمي في إبعادي الأملا ** وما أرعويت وشيباَ رأسي اشتعلا

ومن هذا القبي قول ابن دريد في مقصورته:
واشتعل المبيض في مسوده ** مثل اشتعال النار في جزل الغضا

وقوله: {شيبًا} تمييز محول عن الفاعل في أظهر الأعاريب. خلافًا لمن زعمأنه ما ناب عن مطلق من قوله: {واشتعل} لأنه اشتعل بمعنى شاب، فيكون {شيبًا} مصدرًا منه في المعنى- ومن زعم أيضًا أنه مصدر منكر في موضع الحال.
وهذا الذي ذكره الله هنا عن زكريا في دعائه من إظهار الضعف والكر جاء في مواضع أخر. كقوله هنا: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيًّا} [مريم: 8]، وقوله في (آل عمران): {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} [آل عمران: 40] الآية. وهذا الذي ذكره هنا من إظهار الضعف يدل على أنه ينبغي للداعي إظهار الضعف والخشية والخشوع في دعائه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أي لم أكن بدعائي إياك شقيا، أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك، يعني أنك عودتني الإجابة فيما مضى. والعرب تقول: شقى بذلك إذاتعب فيه ولم يحصل مقصوده. وربما أطلقت الشقاء. على التعب، كقوله تعالى: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117] وأكثر ما يستعمل في ضد السعادة. ولا شك أن إجابة الدعاء من السعادةن فيكون عدم إجابته من الشقاء.
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)}.
معنى قوله: {خِفْتُ الموالي} أي خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي: أن يضيعوا الدين بعدي، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام، فارزقني ولدًا يقوم بعدي بالدين حق القيام. وبهاذا التفسير تعلم أن معنى قومه {يرثني} أنه إرث وعلم ونبوة، ودعوة إلى الله والقيام بدينه، لا إرث مال. ويدل لذلك أمران:
أحدهما- قوله: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين.
والأمر الثاني- ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال، وإنما يورث عنهم العلم والدي فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عنع صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نورث، ما تركنا صدقه» قالوا: نعم. من ذلك ما أخرجه الشيخان أيضًا عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن. فقالت عائشة: أليس قال النَّبي: «ما تركنا صدقة» ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتسم روثني دينارًا، ما تركتُ بعد نَفَقَة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقةٌ» وفي لفظ عن أحمد: «لا تقتسم ورثني دينارًا ولا درهمًا» ومن ذلك أيضًا ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه. عن أبي هريرة: أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه: من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي؟ قالت: فما لنا لا نرث النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن النَّبي لا يورث» ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق.
فهذه الأحاديث وأمثالها ظارة في أن الأنبياء لا يوث عنهم المال بل العلم والدين. فإن قيل: هذا مختص به صلى الله عليه وسلم. لأن قوله: «لا نورث» يعني به نفسه. كما قال عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح المشار إليه عنه آنفًا: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله قال: «لانورث ما تركنا صدقة» يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه. فقال الرهط: قد قال ذلك الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح أن عمر قال: إن مراد النَّبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا نورث» نفسه، وصدقه الجماعة المذكورون في ذلك، وهذا دليل على الخصوص فلا مانع إذن من كون الموروث عن زكريا في الآية الني نحن بصددها هو المال؟ فالجواب من أوجه:
الأول- أن ظاهر صيغة الجمع شمول جميع الأنبياء، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة.
وقول عمر لا يصح تخصيص نص من السنة به. لأن النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق كما هو مقرر في الأصول.
الوجه الثاني- أن قول عمر «يريد صلى الله عليه وسلم نفسه» لا ينتفي شمولا لحكم لغيره من الأنبياء، لاحتمال أن يكون قصده يريد أنه هو صلى الله عليه وسلم يعني نفسه فإنه لا يورث، ولم يقل عمر إن اللفظ لم يشمل غيره، وكونه يعني نفسه لا ينافي أن غيره من الأنبياء لا يورث أيضًا.
الوجه الثالث- ما جار من الأحاديث صريحًا في عموم عدم الإرث المالي في جميع الأنبياء. وسنذكر طرفًا من ذلك هنا إن شاء الله تعالى.
قال ابن حجر في فتح البارس ما نصه: وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ «نحن» لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ «إنا معاشر الأنبياء لا نورث..» الحديث وأخرجه عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه. وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور. وأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو اللفظ المذكور. وأخرجه الدارقطني في العلل من رواية أم هانىء عن فاطمة رضي الله عنها، عن أبي بكر الصديق بلفظ «إن الأنبياء لا يورثون» انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر. وقد رأيت فيه هذه الطرق التي فيها التصريح بعموم الأنبياء. وقد قال ابن حجر: إن إنكار الحديث المذكور غير مسلم إلا بالنسبة لخصوص لفظ «نحن» وهذه الروايات التي أشار لها يشد بعضها. وقد تقرر في الأصول أن البيان يصح بكل ما يزيل الإشكال ولو قرينة أو غيرها كما قدمناه موضحًا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، وعليه- فهذه الأحاديث التي ذكرنا تبين أن المقصود من فقوله في الحديث المتفق عليه «لا نورث» أنه يعني نفسه. كما قال عمر وجميع الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة. والبيان إرشاد ودلالة يصح بكل شيء يزيل اللبس عن النص من نص أو فعل أو قرينة أو غير ذلك قال في مراقي السعود في تعريف البيان وما به البيان:
تصيير مشكل من الجلى ** وهو واجب على النَّبي

إذا أريد فهمه وهو بما ** من الدليل مطلقا يجلو العما

وبهذا الذي قررنا تعلم: أن قوله هنا {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يعني وراثة العلم والدين لا المال. وكذلك قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] الآية. فتلك الوراثة أيضًا وراثة علم ودين. والوراثة قد تطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] الآية، وقوله: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 14]، وقوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} [الأعراف: 169] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة الورادة في ذلك ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العلماء ورثة الأنبياء» وهو في المسند والسنن قال صاحب (تمييز الطيب من الخبيث، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث): رواه أحمد أبو داود والترمذي وآخرون عن أبي الدراداء مرفوعًا بزيادة «إن الأنبياء لم يورثوا دينًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم» وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما- انتهى منه بلفظه. وقال صاحب (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): «العلماء ورثة الأنبياء» رواه أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعًا بزيادة «إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم..» الحديث، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم لاضطراب سنده لكن له شواهد. ولذا قال الحافظ: له طرق يعرف بها أن للحديث أصلًا، ورواه الديلمي عن البراء بن عازب بلفظ الترجمة اه محل الغرض منه. والظاهر صلاحية هذا الحديث للاحتجاج لاعتضاد بعض طرقه ببعض. فإذا علمت ما ذكرنا من دلالة هذه الأدلة على أن الوراثة المذكورة في الآية وراثة علم ودين لا وراثة مال فاعلم أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوالك الأول- هو ما ذكرنا. والثاني- أنها وراثة مال، والثالث: أنها وبالنسبة لآل يعقول في قوله: «ويرث من آل يعقوب» وراثة علم ودين. وهذا اختيار ابن جرير الطبري. وقد ذكر من قال: إن وراثته لزكريا وراثة مال حديثًا عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ذلك أنه قال: «رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته» أي ماذا يضره إرث ورثته لماله. ومعلوم أن هذا لم يثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. والأرجح فيما يظهرلنا هو ما ذكرنا من أنها وراثة علم ودين؛ للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما يدل على ذلك. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره هنا ما يؤيد ذلك من أوجه. قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيًّا} وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفًا سيئًا فسأل الله ولدًا يكون نبيًا ن بعده؛ ليسوسهم بنبوته بما يوحى إليه فأجيب في ذلك؛ لا أنه خشي من وراثتهم له ماله؛ فإن النبي أعظم منزلة، وأجل قدرًا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليجوز ميراثه دونهم- وهذا وجه.
الثاني- أنه لم يذكر أنه كان ذا مال؛ بل كان نجارًا يأكل من كسب يديه. ومثل هذا لا يجمع مالًا، ولاسيما الأنبياء، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
الثالث- أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح «نحن معشر الأنبياء لا نورث» وعلى هذا فتعين حمل قوله: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِيً} على ميرات النبوة. ولهذا قال: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيًّا} كقوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] أي في النبوة، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة. إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل: أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها. وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركنا فهو صدقة» اهـ. محل الغرض من كلام ابن كثير، ثم ساق بعد هذا طرق الحيث الذي أشرنا له «يرحم الله زكريا وما كان عليه من ورثة ماله» الحديث. ثم قال في أسانيده: وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح.
واعلم أن لفظ «نحن معاشر الأنبياء» ولفظ «إنا معاشر الأنبياء» مؤداهما واحد. إلا أن «إن» دخلت على «نحن» فأبدلت لفظة «نحن» التي هي المبتدأ بلفظة «ن» الصالحة للنصب، والجملة هي هي إلا أنها في أحد اللفظين أكدت ب إن كما لا يخفى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا} يعني بهذا الولي الولد خاصة دون غيره من الأولياء. بدليل قوله تعالى في القصة نفسها {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] الآية، وأشار إلى أنه الولد أيضًا بقوله: {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} [الأنبياء: 89] فقوله: {لا تذرني فردًا} أي واحدًا لا ولد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن زكريا: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي} اي من بعدي إذا مت أن يغيروا في الدين.
وقد قدمنا أن الموالي الأقارب والعصبات، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} [النساء: 33] الآية. والمولى في لغة العرب: يطلق على كل من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به. وكثيرًا ما يطلق في اللغة على ابن العم. لأن ابن العم يوالي ابن عمه بالقرابة العصبية. ومنه قول طرفة بن العبد:
واعلم علمًا ليس بالظن أنه ** إذا ذل مولى المرء فهو ذليل

يعني إذا ذلت بنو عمه فهو ذليل. وقوله الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
مهلا ابن عمنا مهلا موالينا ** لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا} ظاهر في أنها كانت عاقرًا في زمن شبابها. والعاقر: هي العقيم الت ي لا تلد وهو يطلق على الذكر والأنثى. فمن إطلاقه على الأنثى هذه الآية، وقوله تعالى عن زكريا أيضًا {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40]. ومن إطلاقه على الذكر قوله عامر بن الطفيل:
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرًا ** جبانًا فما عذري لدى كل محضر

وقد أشار تعالى إلى أنه أزال عنها العقم. وأصلحها. فجعلها ولودًا بعد أن كانت عاقرًا في قوله عز وجل: {فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] فهذا الإصلاح هو كونها صارت تلد بعد أن كانت عقيمًا. وقول من قال: إن إصلاحها المذكور هو جعلها حسنة الخلق بعد أن كانت شيئة الخلق لا ينافي ما ذكر لجواز أن يجمع له بين الأمرين فيها، مع أن كون الإصلاح هو جعلها ولودًا بعد العقم هو ظاهر السياق، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير، ومجاهد وغيرهم. والقول الثاني يروي عن عطاء.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن زكريا {واجعله رَبِّ رَضِيًّا} أي مرضيًا عندك وعند خلقك في أخلاقه واقواله وأفعاله ودينه، وهو فعيل بمعنى مفعول.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ} أي من عندك. وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قرأه أبو عمرو والكسائي بإسكان الثاء المثلثة من الفعلين، أعني {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وهما على هذه القراءة مجوزمان لأجل جواب الطلب هو (هب لي) والمقرر عند علماء العربية. أن المضارع المجزوم في جواب الطلب مجزوم بشرط مقد يد عليه فعل الطلب، وتقديره في هذه الآية التي نحن بصددها، إن تهب لي من لدنك وليًا يرثني ويرث من آل يعقوب. وقرأ الباقون {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يرفع الفعلين على أن الجملة نعت لقوله: (وليًا) أي وليًا وارثًا لي، ووارثًا من آل يعقوب، كما قال في الخلاصة:
ونعتوا بجملة منكرًا ** فأعطيت ما أعطيته خبرا

وقراءة الجمهور برفع الفعلين أوضح معنى. وقرأ ابن كثير بفتح الياء من قوله: {مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي} والباقون بإسكانها. وقرأ زكريا بلا همزة بعد الألف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. والباقون قرؤوا {زكرياء} بهمزة بعد الألف، وبه تعلم أن المد في قوله: {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى} [الأنبياء: 89] منفصل على قراءة حمزة والكسائي وحفص، ومتصل على قراءة الباقين. والهمزة الثانية على قراءة الجمهور التي هي همزة {إذ} مسهلة في قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، ومحققة في قراة ابن عامر وشعبة عن عاصم. وقراءة {خِفْتُ الموالي} بفتح الخاء الفاء المشددة بصيغة الفعل الماضي بمعنى أن مواليه خفوا أي قلو شاذة لا تجوز القراءة بها وإن رويت عن عثمان بن عفان، ومحمد بن علي وعلي بن الحسين، وغيرهم رضي الله عنهم. وامرأة زكريا المذكورة قال القرطبي: هي إيشاع بنت فاقوذ بن قبيل، وهي أخت حنة بنت فاقوذا. قاله الطبري. وحنة: هي أم مريم. وقال القتبي: امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران. فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة. وعلى القول الأول يكون ابن خالة أمه. وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام: «فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى» شاهدًا للقول الأول اهأ. منه. والظاهر شهادة الحديث للقول الثاني لا للأول، خلافًا لما ذكره رحمه الله تعالى، والعلم عند الله تعالى. اهـ.